27 أبريل، 2025

واحة الفكر Mêrga raman

أدبية ثقافية عامة

        رواية “شمس بحجم الكف”عبير عزيم … دراما واقعية مكتملة الأركان / بقلم: بوسلهام عميمر 

بقلم: بوسلهام عميمر 

        رواية “شمس بحجم الكف” .. دراما واقعية مكتملة الأركان

            لعبير عزيم أصغر كاتبة عربية

بعد مجموعتها القصصية الأولى “درع وطن” كتبتها وهي في سن الحادية عشر، كانت روايتها هاته “شمس في حجم الكف” وهي في سنة الثالثة عشر سنة أو الرابعة عشرة من عمرها. إنها أصغر كاتبة على مستوى العالم العربي، عبير حزيم، ابنة تاهلة ومن كان يعرفها قبل أن تعرف هذه الفتاة النابغة. روايتها هاته أجزم لو نحجب مؤقتا اسمها ونقرؤها يصعب تمييزها عن كثير مما نقرؤه من روايات لعدد من كتاب الرواية المعروفين. رواية قال عنها الكاتب عبد العزيز كوكاس، وهو من هو في مجال الكتابة “رواية أعتبرها ولدت بكامل النضج”

الواقعية في أقصى تجلياتها:

الرواية كما يرد على لسان كاتبتها في أكثر من تصريح، أنها واقعية وملتزمة. لم تأل جهدا في الدفاع عن اختيارها، مؤكدة على أن ما يهمها أساسا، أن تصل رسالتها حارة متقدة إلى من يهمه الأمر، ليس فقط من بيده الأمر ممن يتحمل المسؤولية العظمى لهذه الفئة من ذوي الاحتياجات الخاصة. إنهم مواطنون، من حقهم العيش بكرامة في وطنهم. يتمتعون بكافة حقوق المواطنة؛ تعليم جيد وصحة و عيش بكرامة، فالرسالة أيضا موجهة إلى هذه الفئة نفسها ممن لا تتوانى في حواراتها أن تسميهم ذوي الهمم، و تدعوهم لِيَتحدّوا ما نقص من أجسادهم، ويتسلحوا بالإرادة والعزيمة لاقتحام العقبات. فلا شيء مستحيل. وللإشارة فهي لا تطلق الكلام على هواهنه. إنها في روايتها هاته تعرج على مجموعة من الأسماء تحدّوا نقصهم، ونبغوا في مجالات مختلفة، وحققوا ما لم يحققه الكثير ممن لا شيء ينقصهم، تقول جوابا على سؤال ندى للمرأة بدار الشباب “هل قرأت هذا الكتاب؟ (كتاب هلين كيلر)أجل عزيزتي التهمت هذا الكتاب وكتبا أخرى، عظيمة بالفعل هذه المرأة. قرأت أيضا عن لويس بريل، توماس أديسون، بشار بن برد، أبو العلاء المعري، أوغست رينوار، ستيفن هوكينغ، طه حسين .. وغيرهم كثيرون من العظماء الذين لم يمنعهم الشلل أو فقدان السمع أو البصر أو النطق، لينيروا طريق البشرية ويخلدوا أسماءهم على دفتر الأبدية“52

نتوقف على واقعية الرواية في فضاءات مدنها خاصة تاهلة والدار البيضاء، وتتجلى أكثر في شخوصها وإن كانت في البداية تنبه قائلة بذكاء تعبيري جميل أن “أي تشابه أو التقاء بين شخوص هذه الرواية وشخصيات واقعية حقيقية عرفتموها هي محض حب“11 فذكرت شخصية الكاتب عبد الرحمان بوطيب من الدار البيضاء باسمه وصفته، تثني عليه ثناء كبيرا، لإنسانيته ولأياديه البيضاء على مسارها الروائي، إذ كان لها معه حوار شائق، جدير بالتأمل حول علاقة القراءة بالكتابة، وما إن كانت عملا شاقا، وما إن كانت متعبة؟ فكان جوابه وهو العارف بخباياها “هي المهمة المسلية المتعبة” ثم تتابع بتعبير بليغ قائلة “توالت أسئلتي صواريخ من العيار الثقيل فكانت تجد الصدر الرحب” إلى أن سألته قائلة، “كيف للإنسان أن يصبح كاتبا؟ وهل يكفيني أن أكون قارئة نهمة لأصبح مثلك كاتبة مشهورة؟”، فأجابها بحنو كبير، و بلسان العارف الموقن  قائلا، “عزيزتي في نفس كل إنسان مواهب كامنة .. الرغبة أولا ثم القراءة فالولع والعشق المسرف لها ..، عزيزتي كوني قارئة قبل أن تكوني كاتبة” ثم يقول يستدرك ، “ولكن هذا لا يعني أن كل من يقرأ يكتب، فكم من عاشق ولهان بالكتب لا يكتب.. لا بد من الملكة الفطرية الأصيلة .. الكتابة صنعة .. الكتابة فن، الكتابة هبة لا تقيدها معايير وحدود .. لا بد من البنزين لتسير السيارة يا صغيرتي .. القراءة النوعية العاشقة هي ذلك البنزين” فعقبت عليه متلهفة، “إذن علي أن أقرأ وأقرأ قبل أن أفكر في الكتابة” وبرزانة الحكماء المعهودة قال لها، “ليس هذا ما أقصده بالضبط. لا تؤجلي الكتابة إلى حين قراءة الكثير من الكتب” وضرب لها مثالا بالكأس والقنينة ليقرب لها ما يريد أن يمرره لها بلباقة العارف الموقن، قائلا، “الكأس يمتلئ والقنينة تفرغ. إذن لا بد من تعهدها، ونعمل على ملئها كلما صببنا منها، هذا هو الإبداع يا عزيزتي”

وعادة الرواية الواقعية لها خصائصها، إذ تصور بفنية عالية مشاهد من الواقع المعيش تماما كما نلفيه في رواية عبير، فكل شخوصها كانوا ممن تعرفهم معرفة شخصية ابتداء من بطلتها ندى تتماهى معها بشكل كبير، والطفل مراد، و الموظف الكفيف بدار الشباب الذي سلمها كتاب هلين كيري. فهي كما تصرح همها أن تسلط الضوء على معاناة هذه الفئة من ذوي الاحتياجات الخاصة. فمعاناتهم كبيرة هم وذووهم كما الشأن بالنسبة لأم ندى، فمنذ ولادته وهي طريحة الفراش، وحتى رب الأسرة الذي كان يمكن أن يكون السند، بمجرد ازدياد مراد بمتلازمة داون راغ روغان الثعالب وأصبح أثرا بعد عين، مما جعل الكاتبة تحمل عليه حملة شعواء على لسان ابنته ندى، إذ وجدت نفسها وجها لوجه مع تحديات الحياة وقساوتها؛ أم فاقدة للوعي وطفل مصاب، وجدة مسنة. تقول عن أبيها وهي رسالة لكل الآباء ممن عند الليلة الظلماء يفتقد البدر، في حديثها إلى زينب التي هي الأخرى هجرهم أبوها جهلا لمجرد أن أمها لم تكن تنجب غير الإناث “هو تماما مثل أبي الذي تخلى عنا في منتصف الطريق، لا لشيء سوى لأن أمي أنجبت طفلا يعاني من عاهة قد تلازمه مدى الحياة“94

الدراما في رواية عبير:

رواية مفعمة بالمأساوية، أجادت الكاتبة في تصوير حلقاتها. فمن ولادة الأم القيصرية ودخولها في غيبوبة طالت مدتها إلى مشارف صفحات الرواية الأخيرة، علما فالأم عادة تكون بمثابة عماد الخيمة، لا تستقيم الحياة بدون حيويتها وحركيتها، إلى ولادة أخيها مراد، مصابا بمتلازمة داون ومكوثه بدون حركة، وحلمها الذي كاد أن يجهض خلال سفرها إلى الدار البيضاء، فتعود من حيث أتت خاوية الوفاض، والأكثر درامية فرار أبيها واختفاؤه، تاركا حبل أسرته على غاربه، غارقة في بحر متلاطم الأمواج من تباريح الحياة ومشقاتها، بدون معيل ولا سند يخفف عنها غلواء عسرة الحياة.

وككل بناء درامي كانت فيه تموجات بين كوات الضوء وانطفائها، وما يعتري حال بطلة الرواية ندى من ضعف ويأس وقنوط، إلى أن كانت القراءة مفتاح الفرج، وخاصة كتاب الكاتبة الأمريكية هلين كيلر، الذي قلب رأس الأحداث على عقبها. وللقراءة فوائد جانبية أخرى، قد لا ننتبه إليها أشارت الكاتبة إلى بعضها في ص74، بأنها “القراءة تساعد على النوم، وما هي إلا دقائق معدودة حتى شعرت بالنعاس يفترسني”

ومن دراميتها، أحلامها التي كادت أن تتبخر لما حاولت الطفلة ببيت الأستاذ بوطيب، أن تطفئ جذوة أملها، بثنيها عن ملاقاة الأستاذة مريم رئيسة جمعية ذوي الاحتياجات الخاصة، زوّد محاولة تيئيسها حارس البناية الجلف، الذي سد عليها كل منافذ الأمل للقائها، لولا إصرارها وعزيمتها على تحقيق مرادها من أجل أخيها المصاب. ولتؤكد أن الفرج كم مرة يأتي من حيث لا نحتسب، إذ أشار عليها أحد الشباب بما يمكن أن تفعله لتختصر طريق الوصول إلى الأستاذة مريم، وبالفعل كان وكأن السماء فتحت لها أبوابها. فكانت بداية نهاية الرواية السعيدة، بشفاء الأم وعودتها إلى حياتها الطبيعية واشتغالها بأحد معامل النسيج، وشفاء مراد من دائه الذي ولد به، وإن لم يسترد كل عافيته إذ احتفظ بقدراته العقلية وانخراط الطفلة ضمن شبكة الأستاذة مريم لرعاية الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة.

ففضلا عن خطها الدرامي الذي اختارته، من مقدمة تعج بكل ألوان الأسى والأحزان، تقول فيها “عن أي حلم أتحدث؟ فلا وجود له حتى في الخيال، حتما أمي لن تغادر قبرها، أقصد سريرها الموحش، وأبي الذي غادرنا بلا رحمة باحثا عن سعادته الخاصة، لن يعود. وأخي المريض سيبقى على هذه الحال من دون حول ولا قوة“18 بعد أن وصفت بدقة حالة أخيها “ان الرضيع مصاب بمتلازمة داون ويعاني من ثقب في قلبه منذ ولادته سيلازمه إلى الأبد مثل اللعنة” 14-15

رواية باقتدار على درب الكبار، يتداخل في بناء معمارها مجموعة من حكايات درامية لا تقل الواحدة عن الأخرى مأساوية، كقصة السيدة مريم رئيسة جمعية للأطفال المصابين، فقد ولدت معافاة سالمة، كان يلقبها أبوها ببياض الثلج، لكن وهي صغيرة السن، كانت ضحية ارتفاع درجة حرارة جسمها، ففقدت قدرتها على الحركة، فانقلب وضع أسرتها رأسا على عقب، بعد مسيرة شاقة عادت الحركة إلى جزئها العلوي “بينما ظل الجزء السفلي جامدا متصلبا“112. في سياق سردها لقصتها المأساوية، عمدت الكاتبة لتركز على دور المدرسة في شخص الأكفاء من نساء التعليم ورجاله وكذا إدارتها في تغيير نظرة الأطفال إلى هذه الفئة من ذوي الاحتياجات الخاصة، و تسهيل عملية إدماجهم وتمكينهم من حقهم في التعليم. يموت الأب، فتتحمل أمها كل شيء. ولتعقيد الخط الدرامي أكثر، صاعقة أخرى يموت المدير الذي “جعل المدرسة جنة بين يدي” كما قالت، خلفه آخر للأسف لم يراع ظروفها الصحية، مما اضطر أمها لتتولى حملها يوميا على ظهرها و الصعود بها الأدراج، لتتمكن من متابعة دروسها. تقول “كنت أحلم أن أصبح صحافية صرتها ومارست مهنة المتاعب” 116

وبعد أن بلغت المأساوية ذروتها، بتصاعد الأحداث وتعقدها، وبمهارة المتمكن من صنعته، بدأ الانحدار السلس نحو نهايتها السعيدة، ابتداء من الصفحة 41 نقطة التحول من السوداوية إلى النور والانفراج، بتموجات متوترة و مشوقة، بين مد فواجعها وجزرها، قبل أن تجد طريقها نحو الحل من بين فرث ودم تفاعلات شخوصها  المأساوية. تقول عن أخيها في نهاية الرواية “وإن لم تنجح العملية في علاج شلل مراد النصفي، فقد أنقذته من الموت المحقق.. وإن ظلت قدماه مشلولتين، فقد استوت هيئته ولم يمس المرض تكوينه العقلي“136، وعن أمها تقول “بحثت عن علاج لأمها ووجدت لها سريرا بمستشفى ابن رشد بعد عمليات متتالية للترويض حتى عادت لسيرتها الأولى معافاة الجسد قوية القلب ووجدت عملا في إحدى الشركات النسيج وأسست رفقة ابنتها ندى وموظف دار الشباب وأم زكريا وزوجها فرعا للجمعية المغربية لمساعدة الأشخاص في وضعية صعبة بمدينة تاهلة 135

وفي سياق تأثيث خط درامية روايتها وتعقيده أكثر، ذكرت قصة زينب البنت التي صادفتها عند ذ. بوطيب، تقول على لسانها “ولدت يا عزيزتي في بيت قاس، أمي دأبت على إنجاب الإناث، فغضب جدي ووالدي، .. فكان الحل ..أن قام أبي بتطليق والدتي، وهو ما تسبب في تشتت وتشرد العائلة“128 قاتلت الأم من أجل أبنائها إلى أن فتك بها السرطان، بعدها بسنة توفيت أختها أيضا، و غادرت أختها ليلى إلى ديار المهجر. ولتزيد قصتها دراما، تحكي عنها بأنها وهي تضع اللمسات الأخيرة على حفل زفافها، وقع ما لا تحمد عقباه تقول على لسانها ببيان مدهش “تعرضنا لحادثة سير مفجعة تركت وشمها على جسدي وذاكرتي ومستقبلي دخلت في غيبوبة .. وجدت عضوا مني مبتورا .. صار الغم رفيقي منذ ذلك الحين”94 . ومما زاد أمرها تعقيدا وفاة عمتها، وعن العريس تقول بمرارة، “ذهب دون أن يكلف نفسه عناء السؤال عني“94 مما جعلها تحمل حملة شعواء على كل الرجال قائلة، “كل الرجال كذلك، أفاكون لا يتوانون عن الغدر”95

البناء الفني في رواية الكاتبة عبير

وتبقى رواية الكاتبة عبير مع تأكيدها على واقعيتها، والتزامها بقضية هؤلاء الأطفال، ودراميتها المأساوية، فإنها حرصت على امتداد صفحاتها قرابة الخمسة والأربعين بعد المائة، أن لا تفرط قيد أنملة في مقومات صرح روايتها الفني، بعيدا عن التقريرية والإنشائية واللغة المباشرة. فما من صفحة صفحة إلا ونلفي فيها حد الإدهاش، باستحضار سنها الذي كتبت فيه روايتها هاته، لغة انسيابية انزياحية، وصور شاعرية بديعة، وتناصات لا إقحام فيها، وتشبيهات و حكم وأمثال شعبية وحوارات ومونولوغات وغيرها من أساسيات الفن الروائي.

فالرواية بما أنها فن تعبيري راق، مهما بلغ مستوى تيماتها قوة، ومهما كانت دلالاتها موجعة، ومهما كانت رسائلها لمن يهمه الأمر قاضة لمضاجعهم، لا يمكنها أن تنال وسام شرف الانتماء إليها، إلا إذا التزمت بمقومات الفن الروائي ومستلزماته الأدبية. فالرواية حافلة بالصور الشاعرية البليغة، وبالتشبيهات وبالتناصات وبالأمثال الشعبية وباللغة السلسة المنسابة وبالحوارات. بالمثال يتضح المقال. لنتأمل هذه الصورة في سياق حديثها عن وضع أمها المزري “مر ما يقارب الثلاثة أعوام والأم المعتلة على هذا الوضع رابضة في سريرها، غارقة في أحزانها، منصتة للألم الذي يقطع أوصالها. ضلت الابتسامة طريقها إلى شفتيها“17، وتقول في وصف حال أخيها “أخي يكاد يكون عدما، جسدا بلا روح، أو ربما روحا بنصف جسد“20، وعن أبيها تقول لما راغ روغان الثعالب “تذكرت والدها الذي لاذ بالفرار مع أول مشكلة صادفت العائلة في الحياة، أرخى وراءه ألف حجاب، وغادر الأسرة الصغيرة ناسيا أن الغدر من شيم اللئام“59

وكأي روائي متمكن من صنعته، الرواية مفعمة بالتعابير البلاغية البديعة، تنقل مشاعر شخوصها الحزينة ببيان ساحر. نتابع معها هذه الصور البديعة، تقول “أنا هنا قابعة بين هذه الحيطان الآيلة للسقوط في أية لحظة. أحتسي نبيذ وحدتي المر”12، وتقول “يخيل إلي أن قلبي يكاد يكف عن الخفقان، ودماغي أصابه ارتجاج عنيف،، أنفاسي توشك على التوقف لتصدر زفير الغصة المغروسة في صدري وكأن سكرات الموت تلاحقني”13. ولنتأمل معها هذا الجمال في التعبير، عند مشارف الوصول إلى خط نهاية الرواية السعيد “سينبض بيتنا من جديد، وسنعزف سمفونية السعادة التي بارحتنا.. وبعد أن ننتصر سنكون على مواعيد كثيرة مع السعادة والأمل والصمود .. حتى نلمس شمسا بحجم الكف تنير بشعاعها الذهبي مسار دروبنا”ص134. ولنلاحظ تعبيرها وقد أنسنت السعادة قائلة، “السعادة أخذت إجازة .. لاذت بالفرار تاركة أهل هذا البيت الفسيح في دهاليز الأوجاع، ويتجرعون مرارة البؤس والشقاء”14

تعبيرات غاية في العمق والبديع، تنم عن علو كعب عال في هذا اللون الفني. لنتابع معها هذه الصور الفنية، “تتقاذفني موجات إعصار، تتناوب علي نكبات الدهر وبلايا الحياة، فأغرق في بحر من الشرود والنشوز .. أتمرد على نفسي وأغوص في أعماقها الهوجاء، لكنني أتذكر أنني لا أجيد السباحة”13

وبلسان الروائي الواثق من نفسه، فبقدر ما توجهه من نقد لاذع لمجموعة من الظواهر السلبية  تنخر مفاصل جسم الوطن، بقدر الإشادة بما يمتاز به من بين الأمم، مدعاة للاعتزاز والافتخار، تقول في سياق ما اعتراها وهي تعتزم مغادرة قريتها الصغيرة نحو مدينة الدار البيضاء الشبح، “انتابني الكثير من الخوف، وحده أمل لقاء الأستاذة مريم كان يذيب كل قلقي، ليس هناك ما يخيف ما دمت سأسافر بين أحضان وطني، فأينما وليت وجهي أنا في بلدي، لا شيء سيهدد أمني حيثما تنقلت من طنجة إلى الكويرة”65

لم تترك عبير تقنية جمالية لم توظفها في روايتها. تشبيهات بليغة، تقرب معانيها و تضفي على بنائها ، نورد بعضها على سبيل التمثيل “نظر إليها بعينين حالمتين وقال والبسمة تعلو فمه الأشبه بحبة كرز“28. ولنتابع معها كيف استدعت مجموعة من النصوص من مجالات مختلفة في إطار التناص، فمن المجال الديني تورد “نفضت غبار اليأس، وتأهبت لخوض غمار المعركة، رجعت إلى الله، وتذكرت أن الرضى بالقدر خيره وشره ركن من أركان الإيمان”55، وإيرادها للآية الكريمة من سورة آر عمران/ الآية 140“وتلك الأيام نداولها بين الناس” 42، ومن الفلسفة قولها “أنا أفكر بنشاط، إذن أنا موجودة”47، ومن التراث الشعبي القبر المنسي، عادة ما يستغله المشعوذون في ممارستهم لأنواع من السحر، تقول “ماتت الوحدة التي رافقتني منذ زمن طويل فدفنتها في قبر منسي”119

وهي تلملم خيوط روايتها مركزة عدسة قلمها على معاناة شريحة ذوي الاحتياجات الخاصة، لم يفتها أن تصوب فوهة مدفعه بين الفينة والأخرى نحو مجموعة من القضايا؛ اجتماعية و سياسية، منها قولها بمرارة عن الكاتب عبد الرحمان بوطيب في ص74، “كاتب مشهور أغنى عالم الأدب بمنتوجه الرمزي.. يسكن بيتا متواضعا في حي شعبي .. ومتواضع الحال. تبا لأمة لا تكرم حماة تراثها وروحها”، كما سجلت موقفها من ظاهرة التسول وبيع الأدوية في الحافلات، وإن كان بحكم سنها تعاطفت مع متسولة خمسينية و طفل حافي القدمين، فتكرمت عليها بقطعة نقدية تقول، “هالني منظرهما، أدركت أنهما يتسولان، يبتغيان رحمة الركاب، لكن لا مجيب لاستغاثتهما”68. علما فما يشجع هؤلاء على تمسكهم بحرفة من لا حرفة له، هو ما يدره عليهم من أموال طائلة بدون عناء يذكر. كما لم يفتها أن تشير إلى ما باتت تشكله اليوم الهواتف الذكية والحواسيب المحمولة “المحشوة بكل أشكال التفاهة”90

وقبل الختم لا بد من الإشارة إلى ما تحفل به الرواية من تأملات حياتية غاية في الحكمة، جديرة بالتدبر، حتى ليصعب تصور العثور عليها في ثنايا رواية لطفلة يافعة في سن عبير، لكن هم المميزون، أعمارهم المعرفية والعلمية أكبر من أعمارهم البيولوجية، تقول “يهجم علي الحزن من كل صوب، حين أرى الحقائب حزمت وآن موعد الرحيل، لكن تلك سنة الحياة، فلو ظلت الشمس متسمرة هناك في السماء بلا شروق ولا غروب لما شدنا الحنين لدفئها”130، وفي سياق حزين تنتفض قائلة، “فيم تفيد القراءة، إذا لم ينجح العلم في إيجاد حلول لامرأة تعيسة الحظ وطفل بريء، يعاني منذ لفظته الحياة من ألم ثقب قلبه أشبه بثقب الأوزون23 وفي سياق آخر تقول عن الفقر والفاقة “إنه الجوع ..الجوع وحش، إما أن تقتله أو يبادر للنيل منك”73، وفي لحظة انتشاء تقول “ما أجمل الصباح حين ننتظره بشغف، وما أحلى الوجود لما ننظر إليه نظرة أمل”50، وانسجاما مع تيمة روايتها الرئيسية شريحة ذوي الاحتياجات الخاصة التي ندرت نفسها للدفاع عنها، توجه قائلة بلسان الموقن، “يجب ألا نفسح الطريق لعجز الأجساد ليصيب الأرواح”134

بوسلهام عميمر
Copyright © All rights reserved. | Newsphere by AF themes.