شاهدي الله / بقلم: إبراهيم يوسف

من – لبنان
الحكاية من نسج الخيال.
فلا وجود في الواقع للأشخاص وسائر الإشارات والأماكن الواردة في الموضوع.
وأي شبه بين الأشخاص والأحداث والأماكن – إنما هو محض صدفة ليس إلاَّ.
شخصتْ إليها الأبصار وهي تدخل بمهابة وجلال، يسبقها عطرها النّفّاذ عبر الباب الزجاجي الكبير، ويتبعها مرافقان بلباسهما الموحَّد، ونظّاراتهم الداكنة السوداء وأسلحة محجوبة تحت الثياب. فاستنفرتِ الموجودين وهبَّ المصرف بأمِّه وأبيه لخدمتها، بمن فيه من الزبائن والمستخدمين. وسعادة المدير كان على رأس المبادرين المُرحّبين بالمطربة الحسناء، والممثلة التي تميزت بهالة من بريق النجوم تحف بها أينما مرَّت، ويحيط بها أينما رحلَّتْ رهط من المرافقين والمواكبين المعجبين.
فُتِحَتْ أمامها أبواب المصارف. تتهرّب من دفع الضرائب والرسوم، وتكدِّس أموالها بسرية فرضتها وزارة الاقتصاد والمال. تسري مفاعيلها فحسب على من كانت أحوالهم كأحوالها. لكن السرية المصرفية هذه تَخضع قسراً لبعض السلطات الأجنبية، عندما تتعارض مع مصالحها المالية والسياسية. مهما يكن الأمر؟ فقد اشترت بملايين الدولارات طبقةً واسعة كملعب لكرة القدم. تكفي لإيواء عشرات العائلات من المهجَّرين السوريين والعراقيين، وغيرهم من سائر خلق الله المنكوبين المشردين في سائر جنبات الأرض.
هكذا وفي سنوات قليلة من عملها في الوسط الفني، اشترت بمالها وتعبها هذه الطبقة السكنيِّة المشرفة على البحر من ناحية الشمال؛ والواقعة في مبنى يطلُّ مباشرة على مسبح “الكورال بيتش”. تصلها بالمصعد مع سيارتها في الطابق السابع، حيث تركن السيارة في مرأب مخصص لها مقابل الشقّة. كما اشترت بأموال الفن وسهر الليالي، دارات لها في كل من لندن والقاهرة وباريس.
في مقارنة ليست منصفة على الإطلاق..؟ فإنّ الطبيب “وسيم النجّار” أحد رواد جراحة القلب الأوائل في لبنان والعالم العربي..؟ أحيل إلى المعاش لبلوغه سن التقاعد. عاد إلى منزل متواضع، وبستان صغير من الليمون على الساحل الجنوبي بين صيدا وبيروت؛ كان قد تركه له ذووه ليقضي فيه بقية عمره. أما معاشه التقاعدي فيكاد لا يكفي الحاجات الحياتية البسيطة، ما يدفعه لضرورات المعيشة أن يمدَّ يده أحياناً ليطلب مساعدة من ولديه المهندس والطبيب.
هي نفسها تدرك وتعلن بلا خشية أو تحفظ أنها لا تمتلك موهبة الغناء، وذلك الصوت المميز الرخيم؛ ولا البراعة في أداء أدوارها في التمثيل. لكنها توسلت سحرها تغطي به موهبتها المتواضعة وفشلها في الغناء والتمثيل. وزن النقاد تجربتها الفنية فرجحت كفة الإغراء وتجاوزت شهرتها حدود البلاد، فما من إنسيٍّ له أذنان ولم يسمع بها في أربع رياح الأرض. أما رصيدها المالي فقد ارتفع خلال سنوات قليلة لتصبح من أغنى الأغنياء.
بعض كبار الموسيقيين على السّاحة الفنية الواسعة يغامرون بألحانهم معها. ويضعون خبرتهم في التأليف رهن إيماءة من أصابعها. كتَّاب الحوارات أيضاً والشعراء يتسابقون في التزلف لها لنيل رضاها والانتفاع بما تجود عليهم من ابتساماتها وأموالها. يدير أعمالها محامٍ واسع الشهرة ويرعى حفلاتها مدير أعمالٍ لها وصديق، ينصحها بالقرارات المناسبة كلما دعت الحاجة. لكنها في المزيد من الحرص على مصالحها تتابع أمورها المالية بنفسها.
كثير من رجال الأعمال والمال والرؤساء من يرسل إليها طائرته الخاصة، لتقلها مع حاشيتها إلي حيث تحي بعض الحفلات في مناسبات شديدة الخصوصية..؟ ومنهم من ورَّطته في تطلّيق زوجته أو هجرها، كرمى لعينيها البنفسجيتين الساحرتين ومفاتن جسدها يتوه فيها نظر المؤمنين المتعبِّدين، فلا تقلُّ عن مفاتن حورية من حواري الفردوس وعد الله بهن عباده من المتقين الصالحين.
لا تشرب القهوة لكي لا تَسْوَدَّ أحشاؤها من الداخل كما يروِّج لها المحيطون المعجبون. أما عملها فمزدهر زمن السلم ويدِرٌّ عليها المبالغ الخيالية في الأوقات الصعبة أيام الحرب، حينما يكون قادة البلدان أشد حاجة إلى الترفيه لمساعدتهم في إدارة شؤون البلاد، واتخاذ القرارات المصيرية لخدمة “أوطان تحكمها الأفخاذ الملكية “.
بالتنسيق معها دخل شقتها أحد معدِّي برامج التلفزيون على إحدى القنوات، وأحصى أمام المشاهدين مجموعة من سراويل الجينز والأحذية والفساتين، فتعدَتِ المئات من مختلف الأصناف المبتكرة والأشكال. كادَ وقتُ البرنامج ينفد ولم ينتهِ العد.. لها صداقات واسعة غير معلنة لكنها بالغة التأثيرعلى الكثيرين من رجال القرار في السياسة والاقتصاد، في سائر البلدان المجاورة وفي دنيا الاغتراب.. ممن ينفقون الأموال الطائلة بلا حساب، كرمى لعينيها البنفسجيّتين المزرورقتين من عطايا الرَّب القدير.. كعيني أثينا في أساطير اليونان.
يقولون: وهذه نقطة في صالحها..؟ حينما تكون في القاهرة والعهدة دائماً على الرّاوي، تتنقَّب وتتنكّر في زيَّ المؤمنات المُتعبِّدات، وتدخل خلسة مقام الإمام الحسين لتتبرع وتصلي وتبكي أسرتها المبعثرة.. ومنهم من يذهب إلى أبعدَ من ذلك فيقول: إنها تزكِّي مدَّخراتها وأموالها.. وفي الشهر الفضيل تصوم وتصلّي وتمتنع عن المسكرات، وما يتصل بأجواء الفنانين من “الأعمال الحرام”..!؟ من الناس المتفائلين من يراهن أنها حينما تكبر ويذوي جمالها..؟ ستعتزل الفن وتختم حياتها بالتوبة والعبادة والحج إلى بيت الله الحرام. ومنهم من يتشاءم ويقول: من شبَّ على شيءٍ شاب عليه.
فرضت دالتها على جمهور واسع من المعجبين، فأعطت لنفسها الحق وهي على ما تدَّعي وتفاخر به دائماً بأنها ابنة الشعب ومن الشعب؛ لتقول ما ترغب وتمازح من تشاء، من مختلف الأعمار والمقامات في أي وقت يطيب لها التندّر والمزاح، بعيدا من قواعد التعاطي العامة بين سائر البسطاء من الناس.
كانوا يُعدّون معاملتها..؟ ورواد المصرف توقفوا عن الانشغال بأمورهم وحساب الفوائد على أموالهم، بعيدا عمّا يحرك اهتمامهم من الشؤون المالية ذات الصلة بودائعهم، وقد توقف الموظفون عن خدمة الزبائن كرمى لزيارة الضيفة الكريمة وقدومها المفاجىء.. حينما وقع اختيارها على ضحية عجوز تمازحه من بين الزبائن المنتظرين، ممن أثار دخولها فضولهم، والعجوز لا تبدو عليه إمارات الفطنة ولا الأناقة والهندام الحسن؛ فيوحي شكله بالبلادة والخمول.
التفتتْ إليه بعينيها الفاتنتين وقالت له بصوتٍ مسموع استرعى انتباه الحاضرين: هلاّ تبَسَّمتَ قليلاً يا صديقي..؟ ولمَّا لم يستجب لرغبتها في الابتسام أردفت تقول له : ما دمت لا تقوى على الابتسام..؟ فهلاّ أسْمعتني بيتاً من الشعر تحفظه يا صاحب العمر الطويل..؟ قالت ذلك على مذهب الخلفاء في مجالسهم الشعريَّة الشهيرة عبر تاريخ الغناء الطويل، وأبي الفرج الأصفهاني وسلاّمة والشعرالعربي العريق..!
كيف لا وهي التي ترنَّمت في الجلسة التي أحصت لها محطة التلفزة الأحذية وسراويل الجينز، وأدَّتْ أمام ملايين المشاهدين دور” أفديه إن حفظ الهوى أو ضيَّعا “..؟ في المقابلة التلفزيونية إياها. فأخفقت ونشَّزت وأثارت حفيظة مقدم البرنامج، وعرَّض بها وهو في منزلها بلماحة وكياسة وذكاء وأدب شديد.. والرجل العجوز المعني لم يربكه السؤال فتذكَّرَ المقابلة القديمة، وحضرَهُ على الفور كمال الدين بن النبيه ببديهة اكتسبها خلال عقود طويلة في مهنة التدريس، وردَّ عليها برصانة ونبرة خطابية وصوت واضح مسموع وهو يقول:
أيَا مَلِكِ القُلوبِ فَتَكْتَ فيها
وَفَتْكُكَ في الرَّعيةِ لا يَحِلُّ
ولما لم تلتفت إليه.. وهي منصرفة عنه بتوقيع الوثيقة بين يديها..؟ استدرك قائلاً لها: هما بيتان يا سيدتي..؟ وحينما سألته عن البيت الثاني دون أن تلتفت إليه مرة أخرى، ردَّ عليها بشيء من حلاوة الروح وهو يقول:
يَميلُ بِطَرْفِهِ السِّحْرِيِّ عَنّي
صَدَقْتُمْ..؟ إنَّ ضِيْقَ العَيْنِ بُخْلُ.
فاجأها البيت الثاني فوجمتْ قليلاً، وتوقفت عن انشغالها بالتواقيع الأخرى، وطابت لها مماحكته فالتفتت إليه مرة أخرى وهي تقول:
هل تتزوجني..؟
قال لها بسرعة وعفوية خالصة: شاهدي حضرة المدير.. فأين شاهدك..!؟
قالت له: شاهدي الله إنك عجوز يحسن القول.. ولا تطمئنُّ له القلوب.