فكان الرحيل وكان السراح…/ بقلم: عبد الإله ماهل

فكان الرحيل وكان السراح…/ بقلم: عبد الإله ماهل
ــــــــــــــــــــــــــ
احتجب عليه كل جميل، اللهم فسحة فضاء تكاد تختنق من خلال ثقب، وفرجة موقوتة عبر جنبات الساحة، من خلالها يلمس في نفسه، أنه مازال حيا يُرْزق.
كان كلما ضاق ذرعا بالمكان وأهل المكان، يتسلق بحذر إلى سريره العلوي، ينتصب واقفا قرب الشرفة، يشبك بالقضبان، يسترق النظر، إلى حيث الفضاء الفسيح، إلى حيث الحرية، ويهيم نشوان هنا وهناك، علّه وللحظة، ينسى أو بالأحرى يتناسى ما هو عليه.
خفض بصره وبالصدفة، تفَقّد عُشّ الحمام، فاسترعى انتباهه طول غيبة الذكر والحضور الدائم للأنثى، حاضنة لبيضها، لا تبرحه أبدا، وبين الفينة والأخرى، تتطلع إلى السماء وكأنها تتضرع أملاً، أن تسع بذكرها.
حز في نفسه حالها، در فتاتا من الخبز أرضا، ومن غير العادة لم تحرك ساكنا، وظلت قابعة، وكأنها عافت كل شيء.
فحتى بالأمس القريب، وبأرضية الساحة وبرُفقة ذكرها، كانت تختال بحذر غير بعيدة عن أرجل النزلاء، وعندما أنست أمنا وأمانة، وقع الاختيار على شجرة من شجيرات الساحة، باسقة الأغصان، وارفة الظلال، كثيفة الأوراق، وعلى غصن ثلاثي الأبعاد، خِيط وحِيك العش بانتظام، حتى غدا آية في الإتقان.
وفي لحظة حل المخاض، فزقزق الذكر إشفاقا على حال أُنثاه، فكان المبيض فالحضانة.
وذات صباح، استفاق على نبرة صوت، لم يخطئ في التعرف على صاحبه. سعد أيما سعادة، أسرع إلى الشرفة، إنه الذكر وقد عاد سالما إلى أُنثاه، ساعتها تمنى لوكان له جناح الطير، لشاركهما فرحتهما.
لم تبرح الأنثى بيضها، لكن الفرحة كانت بادية، على حركاتها وسكناتها، من خلال رفرفة جناحيها ومناقرة منقاره، وفي المقابل، كان الذكر يبادلها بالمثل، يحوم حولها باسطا جناحيه إنها حرارة اللقاء، إنها لغة لا نفهمها نحن بنو البشر.
لحظات، هدأت ساكنتها وهدأت ساكنته، تخلت له عن الحضانة، تفقد البيض ثم احتضنه، ومضت هي ترفرف طائرة، معانقة هذا الفضاء الفسيح حتى توارت عن الأنظار.
انسلخت الكتاكيت عن قشرتها، وبدت أعناقها تتطاول، تتجاوز كوم القش، إلى حيث بابا…ماما، إلى حيث ما يجلباه من قوت.
لم يدَّخِر الأبوان جهدا في إطعام صغارهما، وحتى لما بدت شقاوتهما، لم يبخلا عليهما في ترويضهما عن الطيران إلى أن بلغا أشدهما، فطارا عن العش، وطار الجميع، وترك العش يتيما، مهجورا تحث رحمة الرياح.
أنها أيام، قضاها منقسما على نفسه، بين عش الحمام رقيبا وعش أسرته حالما، انتهت مصادفة.
فكان الرحيل وكان السراح…
عبد الإله ماهل
المغرب