29 أبريل، 2025

واحة الفكر Mêrga raman

أدبية ثقافية عامة

قراءة في نص سينما قصيدة النثر (1 ) أمل نصر الدين / بقلم: عبد الله السمطي

قراءة في نص سينما قصيدة النثر (1 ) أمل نصر الدين 

بقلم: عبد الله السمطي

ـــــــــــــــــــــ

سينما قصيدة النثر (1)

أمل نصر الدين : شاعرة الحيوية الشعر- نثرية (1-3)

تتمظهر البنية الشعرية عند الشاعرة أمل نصر الدين في تكوين تشكيلي حيوي يتبصرُ أولا – كمبدأ شعري عندها – بحركة الحواس، والتقاطها للأشياء والمشاهد، البسيطة الهشة اليومية العادية. إنها تحول هذه المشاهد إلى لوحات شعرية حيوية تتكئ في جوهرها على إيثار دلالات الشيء وعلاقاته التصويرية الأكثر دينامية في الواقع، والأكثر ملامسة لليومي . إنها لا تجلب علاقات من الذاكرة الشعرية المعهودة، ولا تتصنع تشكيل صور بلاغية أو مجازية ينبني عليها الشعرُ كثيرًا في نزوعه لتكوين خطابه. إنها تفارق الرؤى الكلاسيكية بشكل كبير، هذه الرؤى التي نلمحها ليس في الشعر التقليدي فحسب، بل في قصيدة الحداثة وما بعدها.

إن المقصد ها هنا في رؤية الشاعرة أمل نصر الدين إنها لا تتحرك بذاكرة شعرية مسبقة، تحاصرُ كلماتها وكتاباتها، لكنها تخرج عن أنساق كتبت من قبل أو علاقات شعرية صيغت كثيرًا، خاصة في الدلالات الشعرية الكبرى التي نجدها متكررة كفرض شعري كالسماء والأرض والجحيم والنجوم والبحار والأنهار وقاموس الطبيعة والأشجار والزهور ، فيما نراه مكررا كثيرًا في الشعرية العربية.

تستقبلُ أمل نصر الدين الكلمات بطزاجتها المبدئية، فتحركها كأنها تنحتُ وعيًا جديدًا بالدلالات. الأشياء عندها بلورات منبثقة، والسياقات تترى في أتون حيوي مفارق، وساخر، وساخن معا.

في نص لها تستله بشكل وصفي ، لا تنأى عنه الرؤية السيناريوهاتية تقول:

(بروتيل أزرق

بنطال أبيض فضفاض

قدمان حافيتان

قلب لم يطرق الهم بابه

شعر تطيّره موسيقى ناعمة

يعزفها الهواء في الخلفية

ابتسامة واسعة

تُثبت بها خصلة خلف أذنها اليسرى

يد يمنى ترتخي في كف رجل يشاركها المشهد، الشبه الكبير بينهما وبين البحر )

هذا تقديم نصي لنص يهوى أن يفجر حيويته بصور طازجة وحيوية، تنقل الصور الحقيقية من واقع قد تتلاقى فيه معجمية القرية بمعجمية المدينة. الشارع هو الذي يبث دلالاته لا السموات ولا المجرات. هنا رؤية قريبة تشتغلُ عليها الحواس بكل نزق وتأمل. ولذا تنتقل مشهدية الشعر من الفكر والتخيل البعيد إلى التخيل القريب الذي يعيد مزج الأشياء وخلقها في نحت مختلف تشهق فيه الصور وتتنفس الكلمات.

نلحظ أن الرؤية الوصفية التي تستهل بها الشاعرة نصها تشكل تمهيدا أوليا ومفتتحا يبسط بشكل ما لما سيأتي قوله في النص الرئيسي . هي مقدمة تصويرية باذخة، على اليقين، انتقلت من الخارجي ( بنطال أبيض فضفاض/ قدمان حافيتان) إلى الداخلي ( قلب لم يطرق الهم بابه) ليست صناعة تضاد كما كان يحلو لبعضنا في الأفق النقدي أن يصف هذا التكوين، لكنها كما أسميها في رؤيتي النقدية :” ثنائية تكامل” بين الشيء ونقيضه، بين الكلمة وضدها، بيه العبارة ونقيضها المخالف. حيث تتميز الأشياء بتضاداتها من وجه، وتتكامل من وجه آخر .

تتأمل الشاعرة في هذه المشهدية لتنقل لنا صورة رومانسية عالية بين الأنثى بشعرها الذي يطيره الهواء كأنه يعزف وسيقى ناعمة، وبين الرجل الذي ترتخي يدها في كفه. المشهد شاعري رومانتيكي وكان لابد أن يحضر البحر ها هنا ببعده المشهدي الأزرق المتسع الذي أشارت إليه في أول سطر .

وتُكمل أمل نصر الدين نصها بهذه الاستهلالية الثانية:

صورة تغريني

باختراق شاشة التليفزيون

لأصبح كلبهما الجميل

أجري أمامها بسعادة ولسان مدلدل

تراني أمي

النسوة المرصوصات في درج العادي

يحملن أثر الرضاعة على ثيابهن

مستقبل غائم

حضن مشوب برائحة التعب

شريك فراش سرعان ما يديرُ ظهره

سيضحكن عليّ

ثم تعترف بائعة الخس

بأن الفَرَج لم يعط الصبر المفتاح

حين أغلق بابه وذهب هناك لا يود الرجوع.

 

صورة مبسطة لأمنية أن تتحول الذات الرائية في النص للصورة المرئية الرومانتيكية إلى ( كلب جميل) التحول هنا تحول صوب الإحساس لا صوب التجسد. معنى أن تحضر الذات في مشهد عاشق أن تحس بدلالات هذا المشهد ولو على أية صورة من الحضور.

هي صورة مباغتة بالتأكيد، لكن مجازية الرؤية الشعرية وحيويتها تحفز الشاعرة إلى فعل اختراق جمالي. لا يهم الاحتراز برؤية تقليدية معهودة، أو بقيمة مسبقة. لكن من المهم صنع شعرية ملفتة تسخر ، في العمق ، مما عُهد من شعريات تلوذ باللغة حينا، أو تلوذ بالبنى الكبرى البعيدة عن توهج الواقعي وسطوعه.

قد تقلنا هذه الرؤية التي تمضي عليها الشاعرة المتمثلة في مراودة الواقعي والعادي والمهمش إلى خطابات شعرية لدى شعراء التسعينيات في مصر ومن تلاهم خاصة لدى الشاعر عماد أبوصالح، لكن أمل نصر الدين هنا تجاوز – بحيوية ملفتة على الأقل- بعض ما هو موجود في القصيدة النسوية المصرية من الإعلاء من لفتات الجمل الشعرية وميْكنتها لغويًّا، فيما نراه مثلا في شعر: رشا أحمد، وإلهام عبدالعال، وأمل جمال، وإيمان امبابي، وعفت بركات تمثيلا.

وتمضي الشاعرة في استنطاق التحول إلى الصورة الكلبية كاستعارة كبرى تحيط بدلالات النص وسياقاته:

ليس لي من جسمي

غير أنف يحفظ الروائح

يُخبرُ بوصول جدتي وهي على مقربة

ساعتين من شارعنا المليء بالحفر

يتشمم وجوه أصدقائي

هواتفهم

أحاديثهم

ثيابهم

بحثًا عن أي مرح

يقذف بضحكهم إلى الجو

كي أسرع بالتقاطه من بين النسمة والنسمة.

 

ارتكزت الشاعرة في هذا المشهد الشعري على استعارة الحس الكلبي في تشمم الرائحة، حاسة الشم تعمل بعمق، وهي استعارة ربما تقلنا إلى تراسل الكائنات، قبل تراسل الحواس. هو ابتكار شعري طريف، منتشر ربما في قصيدة النثر بشكل باذخ ، كما نراه متجسدًا مثلا في شعر : سليم بركات، وعبدالقادر الجنابي وسيف الرحبي وفي شعر نهيد درجاني – تمثيلا- عبر استدراج الكائن لقصيدة ذاتية وإعادة تشكيله استعاريا وتصويريا ومشهديا. الشاعرة تدرك طبيعة هذا الاستدراج ، فتحضره أولا بملمحه الدلالي المعروف:( الكلب- الشم – الرائحة) ثم تذهب بعيدا عن هذه العلاقة لتعود إلى العلاقات الإنسانية نفسها : الجدة، وجوه الأصدقاء ، ثم تكرار ما هو حسي يتعلق بالرائحة كما في النص: ( الهواتف، الثياب، النسمة)

إن هذه الرؤية الشعرية التي تجسدها أمل نصر الدين تقودنا إلى استشعار ما تكنه نصوصها من حيوية باذخة لأنها ترتكز على تحريك الحواس وتشكيل الأشياء بعلاقات جديدة، ولا تتوقف عند

ما يصح أو ما لا يصح في التشكيل العلائقي بين الكلمات، ولذا فهي تبدع سياقات شعرية جديدة تتوطنُ على آليات المفارقة والسخرية، وعلى ثنائيات التكامل، وعلى صدمة الوعي القارئ بوعي شعري مختلف تجريبي جديد..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Copyright © All rights reserved. | Newsphere by AF themes.