27 أبريل، 2025

واحة الفكر Mêrga raman

أدبية ثقافية عامة

قراءة في أبيات للشاعر محمد ناجي/ بقلم: د نجيب عثمان أيوب

قراءة في أبيات للشاعر محمد ناجي/ بقلم: د نجيب عثمان أيوب

ــــــــــــــ

 

“…….الله الله……

جميلةٌ أخَّاذة…

وسريعةٌ خاطفة….

وبليغةٌ معبرة…………

كانت دفقةً عاطفيةً جسَّدت حالةَ وجدٍ وولعٍ للبلاد، لا تُسْتَشعرُ غالبا إلا لدىٰ غريبٍ باعدتِ الأسفارُ بينه وبين حياضه الغالية ومسقط رأسه المفقود لديه………

بدأها بدايةً تذكِّرنا ببكائيات الطَلل لدىٰ أسلافِنا فيما قبل الإسلام….. وهم يتركون المطايا ويستوقفون الصحب ويبكون الديار ويشكون ويحكون مآثرها الدفينة بين أضلاعهم….

على غرار قول الملك الضليل آكل المرار:

(قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ….)

بقوله:

” أحبَبْتُها وَطَنًا ولكنْ فاتَني”

ويلاحَظ تأنيثه للمحبوبة ذي الدلالة الموروثة في تراثنا الشعري منذ الجاهلية، الذي خاطبً المحبوبةَ عند رحيلها على أنها الحياة، في صورتها المثال، وكأنها الشمس في ضحوتها أو الأرض في حُنُوِّها وخصوبة أحضانها، فهي الأم الوجودية، منذ عالم الأساطير ولغة اللاشعور المنسية والساحرة.

ويُلاحَظ كذلك توظيفه للضمير الغائب، ليُلَمِّح لحالة الفقد المضمرة خلف هذا الأداء النسقي الجمالي البلاغي الرائع، ليتخفَّىٰ ما يريد التصريح به من حالة الافتقاد (الزماني / المكاني) لهذه المفقودة، وكأنها” بانت مع سعاد” لدىٰ كعب بن زهير، أو مع “سرب ظاعنات الحي” لدىٰ امرئ القيس الكِندي.

لكنها الحقيقة المريرة التي يصرح بها في شكل تقريرٍ تاريخيٍّ _قديمٍ حديثٍ معاصر_ في آن واحد، وهو يقول:

“أوطانُنا بِاسمِ المَحبةِ تُسلَبُ”

لقد عبَّر ناجي بصدقٍ شعوريٍ واضح خلال تجربةٍ حية، عن معاناته التي فرضها البُعدُ المكاني في أسفاره القسرية، وهو يستجير ويدعو اللهَ رحمتهً استجارةً من لسعةِ الوجد لدىٰ محبٍّ بانت عنه محبوبته وشِق روحه. بقوله داعيا:

وارَحمَتاهُ علىٰ المُحِبِّ فإنهُ يُعذَّبُ. بحبه لحياضه الفردوس المفقود… بقوله:

” بِفَضيلةِ الإخلاصِ فَهْوَ مُعَذَّبُ”

مبديًا حيرتَه من إداركه لشيئٍ مُسَلَّمٍ به وحقيقةٍ واقعة وهي: (الأشياء تتضح بأضدادها)، في أداء إنشائي تعجُّبي، مستخدما أدواة الترقيم المعهودة في الكتابات العربية (؟؟!!)، في أداء ساخر من هذه الحال القائمة…… في قوله:

أمَزِيَّةُ الأشياءِ في أضدادِها؟؟!!

مستدركًا بقوله آسفًا:(لكن)…..

بدا متأسفًا لما واجهه وواجهنا به من حقائقَ مريرة، كما أشار صراحةً في إخبارياته المباشرة التي تُفيد بأن

هناك أشياء لا تُوهب مهما غلت عند المحب المولع بحبها مثل:

“الأوطان تُستلَب باسم الحب”

“المخلص معذب بإخلاصه”

“في الأشياءِ ما لا يُوهَبُ”

لقد نوَّع الشاعر المُلهَم المُلهِم، في الأداء اللغوي المعهود لديه بين: (الخبر /الإنشاء، وبالاسم / الفعل، وبالفعلية / الفاعلية / المفعولية، وبالمباشرة / غير المباشرة) في أداءٍ أسلوبيٍّ تأثيريٍّ محمَّلٍ بحمولاتٍ عاطفيةٍ ضِمنية، جعلت قارئه يتأرجح معه بمشاعره الجياشة، بين حالتَي الإخبار بحقائق التاريخ المريرة والواقع المأزوم، ومُسَلَّمات الحكمةِ الرابضةِ والمستكنَّة في موروثنا الثقافي المعرفي، في صورة (كلاشيهات) بارزة في ذاكرتنا الثقافية والتاريخية:

“لكن في الأشياء ما لا يُوهب”.

لقد نجح محمد ناجي، بأدائه التداولي المتمكن من إيصال رسالته لمتلقيه بشكلٍ تداوليٍّ ناجح، في نص اشتبك مع ما وُرِث من نصوصِ تراثنا الأدبي بشكلٍ تفاعليٍّ _أَنتجَ وفق معايير التناصِّ والتاولية_ حالةً شعوريةً نابضة، مما يُعَدُّ إضاءةً مشعةً في فضائنا الشعري قديمًا وحديثًا، مما تستطيع تسميتَه برثاء الأوطان أو غزل البلدان، إن صحت التسمية..

كاد ناجي أن يُقحِمَنا في عالم مكنوناته النفسية والمعرفية، على المستوىٰ الشخصي الوجداني، أو علىٰ المستوىٰ العام السياسي، حينما بدت متوارياتُه الثقافيةُ والنفسيةُ من بين أحرف كلماته الساخنة، في أنساق جمالية، نَمَّت عن سياقه التاريخي الذي يعيشه ويعيشه معاصروه من الأجيال….

لكنه نقلنا بمهاراته المعاصرة المتمكنة من تلابيب التقاليد الشعرية والشاعرية الموروثة _باستلهامه للتراث وبتجسيده للواقع_ نقلةً سريعة، إلىٰ أجواءٍ مُفعمة بالحقائق الواقعية التي جسَّدها تاريخُ منطقتنا العليلة باستلابها باسم الوطنية والانتماء المزعوم.

تماما تمامًا،كالدين المُفْتَرىٰ عليه باسم التَدَيُّن المغلوط والمُوَظَّف لأغراض الدنيا وأدران السياسة والمتاجَرة.

وهنا يُجسِّد الشاعر معاناةَ جيله وأجيالٍ خلت، من تلك المفارقات والادعاءات الكاذبة والمكشوفة.

كان النصُّ علىٰ قِصره، والنَّاصُّ رغم شبابه وحداثةِ سنِّه، دفقةً شعوريةً مُحَمَّلةً بعاطفة الحنين إلىٰ الأوطان، ولوحةً فنية مُزدانةً بأنساق الجمال، ورسالةً ثقافيةً مفعمةً بمضامين الهمِّ الموروث نحو أوطاننا ومواطنيها….

*******

Copyright © All rights reserved. | Newsphere by AF themes.